حين يصون العرش فلسفة دستور 2011: المؤسسة الملكية وضبط توازن السلطة التنفيذية في المغرب
حين يصون العرش فلسفة دستور 2011: المؤسسة الملكية وضبط توازن السلطة التنفيذية في المغرب

الدكتور Essaid Amine أمين السعيد
أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس
في لحظة سياسية دقيقة يعيشها المغرب، حيث يتقاطع النقاش حول الشرعية الشعبية والسلطة التنفيذية، تبرز المؤسسة الملكية كضامن لروح دستور 2011 وحامي لتوازن السلط في إطار من الانضباط الدستوري والوعي التاريخي بمفهوم الدولة.
في ظل التحولات السياسية المتسارعة التي تشهدها المملكة المغربية، يعود النقاش من جديد حول حدود السلطة التنفيذية بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، وحول مدى التزام المؤسسة الملكية بروح دستور 2011 الذي شكل نقطة تحول عميقة في بنية النظام السياسي المغربي. فبعد مرور أكثر من عقد على اعتماد هذا الدستور، تؤكد التجربة المغربية أن الملكية كانت الضامن الأول لتوازن السلط، وللتأويل الديمقراطي للنص الدستوري، في مقابل نزوع بعض الفاعلين السياسيين إلى إعادة إنتاج ممارسات ما قبل 2011 بمنطق دستور 1996.
في هذا السياق، يقدم الدكتور أمين السعيد قراءة دقيقة في فلسفة دستور 2011، مبرزا كيف أسس لثنائية متوازنة في السلطة التنفيذية، وكيف حرص العرش المغربي على احترام المنهجية الديمقراطية والتأويل المؤسساتي للدستور.
دستور 2011 وثنائية السلطة التنفيذية
لقد أسهمت الوثيقة الدستورية لـ 29 يوليوز 2011 في إعادة توزيع السلطة التنفيذية، بتقييد السلطة التقديرية للملك في تعيين رئيس الحكومة وأثره في التخفيف من عدم التوازن بين السلطات، وحضور المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر لانتخابات أعضاء مجلس النواب.
دستور 2011 أجاب عن جزء من مطالب الكتلة الديمقراطية وكذا الشعارات التي رفعت في سياق الدينامية الاحتجاجية لحركة 20 فبراير التي رفعت مطلب الملكية البرلمانية كشعار يرادف مفهوم الانتقال إلى النظام البرلماني الذي يوسع من صلاحيات الحكومة، باعتبارها جهازاً تنفيذياً منبثقاً من الإرادة الشعبية المعبر عنها بصناديق الاقتراع.
وبالتالي فالفصل 89 من دستور 2011 نص على أن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية، وأن الحكومة تعمل، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، وأن الإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية.
وبموجب الباب الخامس من الدستور، فإن رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية ويعين في الوظائف وفي المؤسسات والمقاولات العمومية، وهو ما يعني إرجاع العديد من المؤسسات العمومية إلى منطق التبعية للحكومة وإخضاعها للسياسة العامة للدولة التي أصبحت من اختصاص مجلس الحكومة قبل عرضها على المجلس الوزاري.
من الناحية الدستورية، تحول رئيس الحكومة إلى طرف أصيل وأساس في تعيين سائر أعضاء الحكومة وإعفائهم انطلاقاً من تطور صلاحيته الاقتراحية في هذا المجال، بالإضافة إلى تقييد الإطار الدستوري لسلطة الملك في التعيين في المناصب العليا التي أصبحت تدخل في المجال المشترك بين الحكومة والملك.
لكن في المقابل من ذلك، فإن المؤسسة الملكية ما زالت حاضرة بشكل قوي على مستوى المجال التنفيذي من خلال بوابة المجلس الوزاري الذي يحتل مكانة أهم من مجلس الحكومة؛ فهو يحتفظ بصلاحيات استراتيجية وتحكيمية وتوجيهية (خطاب 17 يونيو 2011)، ويتداول في التوجهات الاستراتيجية للدولة في مشاريع مراجعة الدستور، أي في السلطة التأسيسية الفرعية والقوانين التنظيمية، أي تلك القوانين التي تحدد المبادئ العامة للدستور، وكذلك مصير المؤسسات السياسية الأساسية في الدولة.
ناهيك عن أن المجلس الوزاري يقرر في السياسة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للدولة من خلال تحديد التوجهات العامة لمشروع قانون المالية (الفصل 49)، ومشاريع قوانين الإطار (الفصل 71)، دون أن نغفل أن المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك ينظر في قضايا أخرى، من قبيل مشاريع قوانين العفو العام والنصوص المتعلقة بالمجال العسكري وإعلان حالة الحصار وإشهار الحرب، ويحال إليه مشروع مرسوم رئيس الحكومة القاضي بحل مجلس النواب، وينظر كذلك في التعيينات باقتراح من رئيس الحكومة في إطار القانون التنظيمي المحدد للائحة المؤسسات الاستراتيجية للدولة.
التزام ملكي على احترام دستور 2011
يتضح بشكل جلي أن الملك يحترم الفقرة الأولى من الفصل 47 من دستور 2011 التي تسند رئاسة الحكومة إلى الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، رغم أن هذا المقتضى يثير تأويلاً على مستوى التفعيل العملي، حيث لم يشترط النص الدستوري في تعيين رئيس الحكومة أن يكون الأمين العام أو رئيس الحزب.
وفي ذات المنحى، اتجهت الممارسة الملكية إلى تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب (2011/ العدالة والتنمية – 2016/ العدالة والتنمية – 2021/ التجمع الوطني للأحرار)، مما يعني أن المؤسسة الملكية تحترم المنهجية الديمقراطية التي تتماشى مع منطوق دستور 2011 ومع فلسفة خطاب 9 مارس 2011.
وهكذا، مادام أن التعيين الملكي لرئيس الحكومة يظل شكلياً مقيداً بنتائج صناديق الاقتراع، فإن إعفاء رئيس الحكومة يستند على هذه الفلسفة المستمدة من قاعدة توازي الشكليات، تحت طائلة السقوط في أحكام الفقرة الأولى من الفصل 47 التي ترتب حصانة دستورية لرئيس الحكومة أمام الملك.
حيث لا يتوفر هذا الأخير من الناحية الدستورية على حق إعفاء رئيس الحكومة، وهذا ما يُفهم من منطوق الفقرة الثالثة من الفصل 47 التي تنص على أنه للملك، بمبادرة منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضواً أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم. وبمفهوم المخالفة؛ لا ينبغي أن يُفهم من عبارة “أو أكثر من أعضاء الحكومة” أن رئيس الحكومة يدخل ضمن هذه العبارة.
المسالك الدستورية في حالة التوتر السياسي
ومع ذلك، فإن التجربة الدستورية المغربية لا تُقاس بالنصوص فقط، بل بمدى التزام الممارسة السياسية بروح الدستور وتأويله الديمقراطي، وهو ما تجسده المؤسسة الملكية في تفاعلها مع الأزمات الكبرى التي شهدتها البلاد خلال العقد الأخير.
من هذا المنطلق، يُطرح التساؤل حول المسالك الدستورية المحتملة في حالة وقوع بعض التوترات أو الصراعات التي تجعل رئيس الحكومة في قلب النقاش العمومي، حيث يمكن التعويل على ثلاثة مسالك رئيسية:
المسلك الأول: استقالة رئيس الحكومة الطوعية، وهو ما يجد سنده في الفقرة السادسة من الفصل 47 من دستور 2011 التي تنص على أنه يترتب على استقالة رئيس الحكومة إعفاء الحكومة بكاملها من لدن الملك.
المسلك الثاني: في حالة استمرار التوتر ورفض رئيس الحكومة الاستقالة، لا يوجد نص صريح يعطي للملك حق إعفائه، مما يتيح له إعمال هذا الإجراء بطريقة غير مباشرة من خلال حل البرلمان (استناداً للفصول 51، 96، 97، 98 من الدستور)، وهو مسلك استثنائي قد يدخل البلاد في أزمة سياسية.
المسلك الثالث: إمكانية الملك إعفاء رئيس الحكومة وتعيين شخصية ثانية من نفس الحزب الحاصل على المرتبة الأولى، وهو إجراء غير منصوص عليه صراحة في الدستور، رغم وجود سابقة في حالة بنكيران سنة 2017.
الحرص الملكي على التأويل الديمقراطي للدستور
أظهرت الممارسة السياسية الملكية بين سنتي 2011 و2025 بروز العديد من الأحداث التي كان بإمكان الملك فيها تفعيل مقتضيات الفصلين 51 أو 59 من الدستور، إلا أن التفسير الملكي الديمقراطي حال دون ذلك.
فخلال أزمة تشكيل الحكومة سنة 2016، واحتجاجات الريف وجرادة، وجائحة كورونا، وفضيحة امتحان المحاماة، واحتجاجات الطلبة الأطباء، وغيرها من الأزمات، فضّل الملك الحفاظ على الاستقرار السياسي واحترام الاختصاصات المؤسساتية.
كما تجلى هذا الحرص في رفض المؤسسة الملكية استعمال التحكيم الملكي في الخلاف الذي نشب سنة 2013 بين حزب الاستقلال وحكومة بنكيران، حيث اعتبر الملك أن الخلاف سياسي داخلي لا يرقى إلى مستوى التحكيم.
لقد أثبتت التجربة السياسية المغربية منذ إقرار دستور 2011 أن المؤسسة الملكية لم تكن فقط ضامنة لاحترام النص الدستوري، بل كانت أيضا رمانة الميزان في ضبط توازن السلط وصون الاستقرار السياسي. فبين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، يظل العرش المغربي هو الحارس الأمين على فلسفة التدرج الديمقراطي الذي يجمع بين الشرعية الشعبية والشرعية التاريخية للدولة المغربية الحديثة.
