عرفة.. حين تُنادى الأرواح

0 244

عرفة.. حين تُنادى الأرواح

– هاشمي بريس 

عرفة.. حين تُنادى الأرواح

عرفة ليست مجرد أرض، ولا مجرد يوم. بل هي لحظة كونية تهفو لها الأرواح كما يشتاق العاشق إلى محبوبه بعد غياب طويل.
الوقوف فيها لا يعني توقف الجسد فقط، بل يعني قفزة في مدار القلب، وخروجًا من الزمن المعتاد إلى لحظة “الآن” التي تتسع للخلود.


الإنسان في حضرة المطلق

على صعيد عرفة، يخلع الإنسان كل أقنعته. فهو لا يفاخر، ولا يُحصي ما أنجز، بل يحضر بقلبه وحده.
يقف في صمت، لا لشيء، بل ليكون بكليّته.
وما أعمق هذا الحضور! إنه أشبه بشهادة على النفس، ومثول أمام الحقيقة، وتحرر من كل ثقل حمله العمر.

وقد قال النبي ﷺ: “الحج عرفة”. لذلك، تتجلى جوهرية هذا اليوم في كونه خلاصة الرحلة كلها.
ففيه يرفع الحاج يديه، لا ليطلب فقط، بل ليُسلّم، ويقول لله: “أنا هنا يا رب، كل ما فيّ لك، فأعدني إليّ كما تحب”.


فضاء خالٍ من الملهيات

في عرفة، لا يشوش انتباهك شيء.
فلا مبانٍ شاهقة، ولا طقوس معقدة تشغلك عن المعنى.
تمتد السماء فوقك كرحابة مطلقة، وتنبسط الأرض أمامك، بينما يُفسَح لك المجال للابتهال.
هنا، تتساقط الانشغالات، وتذوب الأقنعة، وتتحوّل الدموع إلى لغة يفهمها الجميع، رغم اختلاف جنسياتهم وألسنتهم.


سقوط الفواصل بين البشر

من جهة أخرى، تذيب عرفة كل الفواصل بين الناس.
فلا أحد يرى فرقًا بين عربي وأعجمي، غني وفقير، متعلم وبسيط.
الجميع يتساوون في الانكسار، ويتشابهون في الدعاء.
وفي الحقيقة، من لم يبكِ في عرفة، لعلّه لم يصل بعد إلى صميم قلبه.


دعوة للحضور الكامل

الوقوف في عرفة ليس فقط تواجدًا جسديًا، بل هو تمرين على الحضور بكامل الذات.
لذلك، لا يمكن للإنسان أن يدخل عرفة حقًا، ما لم يدخل إلى نفسه أولًا، ويجلس معها في صمت، ويواجه ما أخفاه العمر من وجع وحنين.


يوم تُبعث فيه القلوب

قال بعض العارفين إن عرفة تُشبه يوم القيامة، ليس بسبب الحشود فقط، بل لأن القلوب تُبعث فيها حيّة من جديد.
يقف الإنسان وحده، دون وسطاء، بينه وبين ربه، ويهمس صوته الداخلي:
“رباه، إن لم أكن أهلاً لعفوك، فأنت أهلٌ لأن تعفو”.


نقطة التحول الكبرى

عرفة لا تمثل شعيرة عابرة، بل نقطة تحوّل جذرية في مسار الإنسان.
ففيها يتخلى عن صورته القديمة، ويبدأ رحلة العودة إلى ذاته النقية، تلك التي عرفت الله قبل أن تُعميها فوضى الدنيا.


عند الغروب.. تُولد الرحمة من جديد

ومع غروب شمس يوم عرفة، تبدأ لحظة الرجاء الأعظم.
حينها، تصطبغ السماء بلون المغفرة، وتغمر الأرض نسمات القبول.
في تلك اللحظة، تُرفع الأدعية الصادقة، وتُستعاد الأماني القديمة، ويُبعث الأمل من رماده.

حين يدرك الحاج أنه لم يأتِ ليضيف مجرد صفحة جديدة، بل ليبدأ كتابًا جديدًا عنوانه:
“ها قد عدتُ يا رب، فاجعلني كما كنت أحب أن أكون.”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.